كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وليس هذا من باب الاستدلال بل من باب الإشارة المقوية له، ألا ترى أنه لم يستدل أحد ممن ذهب إلى اشتراط الخمس بهذه الآية ولكن استدلوا عليه بورود الخمس في الأخبار، وإلى ذلك تشير عبارة الجلال السيوطي رحمه الله تعالى، وهذه الإشارة مفقودة في القول المفروض أعني واللاتي أرضعنكم أمهاتكم، لأن العطف فيه لا يوهم التكرار لعدم تقدم نظيره فلا يشرأب الذهن إلى ما يذكر بعد كما اشرأب فيما ذكر قبل، فلا داعي لاعتباره أينما لوحظ كما كان كذلك هناك بل يكفي اعتباره مرة واحدة وهي أدنى ما تتحقق به الماهية لاسيما وقد ذكر بعد أمهاتكم على أنه بدل والبدل كما قالوا: هو المقصود بالنسبة على نية تكرار العامل المفيد لتقرير معنى الكلام وتوكيده، وهذا التوكيد أيضًا مشعر بوحدة الإرضاع لأن التحريم بالرضعة الواحدة مما يكاد يستبعد فيحتاج إلى توكيده بخلاف الرضعات العديدة.
وقد رأيت في بعض نسخ شرح صحيح مسلم للإمام النووي بعد ذكر استدلال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه على دعوى ثبوت الحرمة برضعة واحدة بقوله تعالى: {وأمهاتكم الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ} حيث لم يذكر عددًا ما نصه: واعترض أصحاب الشافعي على المالكية فقالوا: إنما كانت تحصل الدلالة لكم لو كانت الآية واللاتي أرضعنكم أمهاتكم انتهى، ولم يصرح رحمه الله تعالى بأن الآية التي استدل بها المالكية مشعرة بالخمس بل اقتصر على أن الدلالة على الواحدة لا تحصل بها وأراد أن ما أشرنا إليه من الإشعار القوي إلى التعدد يأبى حمل الماهية على أقل ما تتحقق فيه، وفي بعض نسخ ذلك الشرح واعترض أصحاب الشافعي على المالكية فقالوا: إنما كانت تحصل لكم الدلالة لو كانت الآية واللاتي أرضعنكم وأمهاتكم بواو بين أرضعنكم وبين أمهاتكم والظاهر أنها غلط من الناسخ، والتزام توجيهها تعسف رأينا تركه ربحًا.
هذا ما ظهر لنظري القاصر وفكري الفاتر، ولقد سألت بالرفق عن هذا الفرق جمعًا من علماء عصري، وراجعت لشرح ذلك المتن جميع الفضلاء الذين تضمنتهم حواشي مصري فلم أر من نطق ببنت شفة ولا من ادعى في حل ذلك الإشكال معرفة مع أن منهم من خضعت له الأعناق، وطبقت فضائله الآفاق، وما رأيت من المروءة أن أمهلهم حتى ينقر في الناقور أو أنتظر بنات أفكارهم إلى أن يلد البغل العاقور الباقور؛ فكتبت ما ترى ولست على يقين أنه الأولى والأحرى فتأمل، فلمسلك الذهن اتساع والحق أحق بالاتباع.
{وأمهات نِسَائِكُمْ} شروع في بيان المحرمات من جهة المصاهرة إثر بيان المحرمات من جهة الرضاعة التي لها لحمة كلحمة النسب.
والمراد بالنساء المنكوحات على الإطلاق سواء كن مدخولًا بهن أو لا وهو مجمع عليه عند الأئمة الأربعة لكن يشترط أن يكون النكاح صحيحًا أما إذا كان فاسدًا فلا تحرم الأم إلا إذا وطئ بنتها، أخرج البيهقي في سننه وغيره من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالإبنة أو لم يدخل وإذا تزوج الأم ولم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج الإبنة» وإلى ذلك ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، وعن ابن عباس روايتان، فقد أخرج ابن المنذر عنه أنه قال: «النساء مبهمة إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل له أمها».
وأخرج هو أيضًا عن مسلم بن عويمر أنه قال: نكحت امرأة فلم أدخل بها حتى توفي عمي عن أمها فسألت ابن عباس فقال: انكح أمها، وعن زيد بن ثابت أيضًا روايتان، فقد أخرج مالك عنه أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ففارقها قبل أن يمسها هل تحل له أمها؟ فقال: لا الأم مبهمة ليس فيها شرط إنما الشرط في الربائب.
وأخرج ابن جرير وجماعة عنه أنه كان يقول: إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها، وإذا طلقها قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها، وحكي عن ابن مسعود كان يفتي بحل أم الإمرأة إذا لم يكن دخل ببنتها ثم رجع عن ذلك، فقد أخرج مالك عنه أنه استفتي بالكوفة عن نكاح الأم بعد البنت إذا لم تكن البنت مست فأرخص في ذلك، ثم إنه قدم المدينة فسئل عن ذلك فأخبر أنه ليس كما قال، وإن الشرط في الربائب فرجع إلى الكوفة فلم يصل إلى بيته حتى أتى الرجل الذي أفتاه بذلك فأمره أن يفارقها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه سئل في الرجل يتزوج المرأة ثم يطلقها أو تموت قبل أن يدخل بها هل تحل له أمها؟ فقال: هي بمنزلة الربيبة، وإلى ذلك ذهب ابن الزبير ومجاهد، ويدخل في لفظ الأمهات الجدات من قبل الأب والأم وإن علون وإن كانت امرأة الرجل أمة فلا تحرم أمها إلا بالوطء أو دواعيه لأن لفظ النساء إذا أضيف إلى الأزواج كان المراد منه الحرائر كما في الظهار والإيلاء، وقرئ وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن.
{وَرَبَائِبُكُمُ اللاتى في حُجُورِكُمْ} الربائب جمع ربيبة ورب وربى بمعنى، والربيب فعيل بمعنى مفعول، ولما ألحق بالأسماء الجامدة جاز لحوق التاء له وإلا ففعيل بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وهذا معنى قولهم: إن التاء للنقل إلى الاسمية، والربيب ولد المرأة من آخر سمي به لأنه يربه غالبًا كما يرب ولده، والحجور جمع حجر بالفتح والكسر، وهو في اللغة حضن الإنسان أعني ما دون إبطه إلى الكشح، وقالوا: فلان في حجر فلان أي في كنفه ومنعته وهو المراد في الآية، ووصف الربائب بكونهن في الحجور مخرج مخرج الغالب والعادة إذ الغالب كون البنت مع الأم عند الزوج، وفائدته تقوية علة الحرمة (وتكميلها) كما أنها النكتة في إيرادهن باسم الربائب دون بنات النساء، وقيل: ذكر ذلك للتشنيع عليهم نحو {أضعافا مضاعفة} في قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة} [آل عمران: 130] ولولا ما ذكر لثبتت الإباحة عند انتفائه بدلالة اللفظ في غير محل النطق عند من يعتبر مفهوم المخالفة وبالرجوع إلى الأصل وهو الإباحة عند من لا يعتبر المفهوم لأن الخروج عنه إلى التحريم مقيد بقيد فإذا انتفى القيد رجع إلى الأصل لا بدلالة اللفظ، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه يقول بحل الربيبة إذا لم تكن في الحجر؛ فقد أخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم بسند صحيح عن مالك بن أوس قال: كانت عندي امرأة فتوفيت وقد ولدت لي فوجدت عليها فلقيني عليّ بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه فقال: مالك؟ فقلت: توفيت المرأة فقال: لها بنت؟ قلت: نعم وهي بالطائف قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا قال: أنكحها قلت: فأين قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتى في حُجُورِكُمْ}؟ قال: إنها لم تكن في حجرك إنما ذلك إذا كانت في حجرك وإلى هذا ذهب داود، والأول مذهب الجمهور، وإليه رجع ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، ويدخل في الحرمة بنات الربيبة والربيب وإن سفلن لأن الاسم يشملهن بخلاف الأبناء والآباء لأنه اسم خاص بهن فلذا جاز التزوج بأم زوجة الابن وبنتها، وجاز للابن التزوج بأم زوجة الأب وبنتها.
وقال بعض المحققين: إن ثبوت حرمة المذكورات بالإجماع.
{مّن نِّسَائِكُمُ التي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} الجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالًا من {ربائبكم} أو من ضميرها المستكن في الظرف أي اللاتي استقررن في حجوركم كائنات من نسائكم إلخ، واللاتي صفة للنساء المذكور قبله، وهي للتقييد إذ ربيبة الزوجة الغير المدخول بها ليست بحرام ولا يجوز كون الجار حالًا من أمهات أيضًا، أو مما أضيفت هي إليه ضرورة أن الحالية من ربائبكم أو من ضميره يقتضي كون من ابتدائية وحاليته من أمهات، أو من نسائكم يستدعي كونها بيانية، وادعاء كونها اتصالية كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» وقوله:
إذا حاولت في أسد فجورا ** فإني لست منك ولست مني

وهو معنى ينتظم الابتداء والبيان فيتناول اتصال الأمهات بالنساء لأنهن والدات، وبالربائب لأنهن مولودات، أو جعل الموصول صفة للنساءين مع اختلاف عامليهما لأن النساء المضاف إليه أمهات مخفوض بالإضافة، والمجرور بمن بها بعيد جدًا بل ينبغي أن ينزه ساحة التنزيل عنه، وأما القراءة فضعيفة الرواية، وعلى تقدير الصحة محمولة على النسخ كما قاله شيخ الإسلام، والباء من {دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} للتعدية، وفيها معنى المصاحبة أو بمعنى مع أي دخلتم معهن الستر، وهو كناية عن الجماع كبنى عليها، وضرب عليها الحجاب وكثير من الناس يقول: بنى بها، ووهمهم الحريري وهو وهم.
واللمس ونظائره في حكم الجماع عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، قال بعض الفضلاء: واعترض بأن ما ذهب إليه لا مجال له لأن صريح الآية غير مراد قطعًا بل ما اشتهر من معناها الكنائي فما قاله إن أثبت بالقياس فهو مخالف لصريح معنى الشرط، وإذا جاء نهر الله تعالى بطل نهر معقل، وإن أثبت بالحديث وهو غير مشهور لم يوافق أصوله، ويدفع بأنه من صريح النص لأن باء الإلصاق صريحة فيه لأنه يقال: دخل بها إذا أمسكها وأدخلها البيت فإن قلت: هب أن الكناية لا يشترط فيها القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة لكن تلزم إرادته كما حقق في المعاني فلا دلالة للآية عليه أجيب: بأنه وإن لم يلزم إرادته لكن لا مانع منه عند قيام قرينة على إرادته، وكفى بالآثار قرينة، ومنها ما روي من طريق ابن وهب عن أبي أيوب عن ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي يتزوج المرأة فيغمز لا يزيد على ذلك لا يتزوج ابنتها وهو مرسل ومنقطع إلا أن هذا لا يقدح عندنا إذا كانت الرجال ثقات فلذا أدرجوه في مدلول النظم، وروي عن ابن عمر أنه قال: إذا جامع الرجل المرأة أو قبلها أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة حرمت على أبيه وابنه وحرمت عليه أمها وبنتها.
فإن قلت هب أنه يدخل اللمس في صريحه فكيف يدخل نظيره فيه؟ أجيب بأنه داخل بدلالة النص، وما ذكر من مخالفة صريح الشرط مبني على اعتبار مفهوم الشرط، ونحن لا نقول به مع أنه غير عام، وبتقدير عمومه لا يبعد القول بالتخصيص فتدبر.
والزنا في الفرج محرم عندنا فمن زنى بامرأة حرمت عليه بنتها خلافًا للشافعي حيث ذهب إلى أن الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة لأنها نعمة فلا تنال بمحظور، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحرم الحرام الحلال» ولنا أن الوطء سبب للولد فيتعلق به التحريم قياسًا على الوطء الحلال، ووصف الحل لا دخل له في المناط فإن وطء الأمة المشتركة وجارية الإبن والمكاتبة والمظاهر منها وأمته المجوسية والحائض والنفساء ووطء المحرم والصائم كله حرام، وتثبت به الحرمة المذكورة، ويدل ذلك على أن المعتبر في الأصل هو ذات الوطء من غير نظر لكونه حلالًا أو حرامًا.
وروي أن رجلًا قال: يا رسول الله إني زنيت بامرأة في الجاهلية أفأنكح ابنتها فقال صلى الله عليه وسلم: «لا أرى ذلك ولا يصلح أن تنكح امرأة تطلع من ابنتها على ما تطلع عليه منها»، وهذا إن كان فيه إرسال وانقطاع لكن جئنا به في مقابلة خبرهم وقد طعن فيه المحدثون، وذكره عبد الحق عن ابن عمر ثم قال: في إسناده إسحاق بن أبي فروة وهو متروك على أنه غير مجرى على ظاهره، أرأيت لو بال أو صب خمرًا في ماء قليل ألم يكن حرامًا مع أنه يحرم استعماله فيجب كون المراد منه أن الحرام لا يحرم باعتبار كونه حرامًا وحينئذ نقول بموجبه إذ لم نقل بإثبات الزنا حرمة المصاهرة باعتبار كونه زنا بل باعتبار كونه وطءًا، وأجاب صاحب [الهداية] عن قولهم في تعليل كون الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة بأنه نعمة فلا تنال بمحظور بأن الوطء محرم من حيث إنه سبب الولد لا من حيث (ذاته ولا من حيث) إنه زنا، وفي فتح القدير أن هذا القول مغلطة فإن النعمة ليست التحريم من حيث هو تحريم لأنه تضييق ولذا اتسع الحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم (نعمة) من الله سبحانه وتعالى بل من حيث هو يترتب على المصاهرة فحقيقة النعمة هي المصاهرة لأنها (هي) التي تصير الأجنبي قريبًا وعضدًا وساعدًا يهمه ما أهمك ولا مصاهرة بالزنا، فالصهر زوج البنت مثلًا لا من زنا ببنت الإنسان فانتفت الصهرية وفائدتها أيضًا إذ الإنسان ينفر من الزاني ببنته فلا يتعرف به بل يعاديه فأنى ينتفع به، والمنقولات متكافئة فالمرجع القياس، وقد بينا فيه إلغاء وصف زائد على كونه وطأً، وتمام الكلام في المبسوطات من كتب أئمتنا.
{فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ} أي فيما قبل {دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} أي بأولئك النساء أمهات الربائب {فَلا} أي فلا إثم {يَتْلُو عَلَيْكُمْ} أصلًا في نكاح بناتهن إذا طلقتموهن أو متن، وهذا تصريح بما أشعر به ما قبله، وفيه دفع توهم أن قيد الدخول كقيد الكون في الحجور، والفاء الأولى لترتيب ما بعدها على ما قبلها على طرز ما مر، وفي الاقتصار في بيان نفي الحرمة على نفي الدخول إشارة إلى أن المعتبر في الحرمة إنما هو الدخول دون كون الربائب في الحجور، وإلا لقيل: فإن لم تكونوا دخلتم بهن ولسن في حجوركم أو فإن لم تكونوا دخلتم بهن أو لسن في حجوركم جريًا على العادة في إضافة نفي الحكم إلى نفي تمام العلة المركبة أو أحد جزأيها الدائر، وإن صح إضافته إلى نفي جزئها المعين لكنه خلاف المستمر من الاستعمال.